عدنان بن عبد الله القطان

19 رجب 1444 هـ – 10 فبراير 2023 م

——————————————————————————-

 

الحمد لله العزيز القاهر، يعلم خفايا الصدور ومكنونَ الضمائر لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمِهِ، سبحانه وبحمده، تطامَنَت لعَظَمَته الجبال الرَّواسي، وخضَعَت لجبَروته الرِّقاب والنَّواصي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأوَّل والآخر والظاهر والبَاطن وهو بكل شيء عليمٌ، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أزكى الورَى وخير من وطئت قدمُه الثرى صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين والتابعين ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وخذوا العبرة مما ترون وتسمعون من أحداث وزلازل وكوارث في هذه الحياة الدنيا، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)

معاشر المسلمين: لقد قضَت سنّةُ الله عز وجلّ أن تُبتلى النفوس في هذه الدنيا، تبتلَى بالخير والشرّ والأمن والخوف والمِنَح والمحن والأقرَبين والأبعَدين، كما قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال سبحانه، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).  وإنّ هذه الابتلاءات بأنواعها تستجيش مذخورَ القوَى، وتستثير كوامن الطاقات، وتفتح في القلوب منافذَ، وفي النفوس مسارب، ما كان ليتبيَّنها أهلُ الإيمان إلا تحتَ مطارقِ هذه التقلّبات والتغيرات..  أيّها المؤمنون: يذكُر علماء الأرصاد والمراقبون، ويتحدَّث الإحصائيّون، عن تكاثُر المتغيِّرات الكونيّة على هذه الأرض وتتابُع الحوادث والكوارِث والزلازل في هذا العصر، حتى قالوا: إنّ الزلازلَ في السنوات القريبة الماضية أكثر منها أربع مرّات مما لم يحصل مثلُه سوى مرّة واحدة طوال عشرين سنة أو أكثر في أوائل القرنِ الماضي، ويقولون: إنّه كلّما تقدّمت السنوات زادَ عددُ الزلازل والتغِيَرات وأنواع الكوارث والمثُلات

ولعلّ المتأمِّلَ والناظر بعينٍ راصدة وقلبٍ يقِظ يسترجع بعضَ هذه الآيات والحوادِث والكوارثِ والنّذُر ليجدَها ما بين موجٍ عاتٍ، وماءٍ طاغٍ، وخسفٍ مُهلك، وزلزالٍ مدمِّر، ووباءٍ ومرض مميت، يرسل الله الجرادَ والقمَّل والضفادِع والدمَ والطيورَ بأمراضِها، والأعاصيرَ برِياحِها، والفيضاناتِ بمائها في آياتٍ مفصَّلات.. أمراضٌ مستعصِية، وأوبِئة منتشرة تحملها طيورٌ وتنقُلها حيوانات وجراثيم وميكروبات وفيروسات، حمّى البقر والغنم، وأنفلونزا الطيور، والخنازير، والهزّات الأرضيّة والزلازلُ، أمراض وأوبئة وأدواء، لا يملك أحدٌ ردَّها، ولا يستطيع امرؤٌ صدَّها، ولا السيطرةَ عليها، مهما أوتي من علمٍ في مكتشفاته ومختبراته ومخترَعاته وراصِداته، لا يملك السيطرةَ عليها، ولا الحدَّ من انتشارها، ولا دفعَها أو ردَّها؛ إنها جنودٌ من جنود الله في البرّ والبحر والجو، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)

نعم عباد الله، جنودٌ غيرُ متناهية؛ لأنّ قدرة الله غير متناهية، فالكون كلُّه بأنسه وجنِّه وأرضه وسمائِه وهوائِه ومائِه وبرِّه وبحرِه وكواكبِه ونجومِه وكلِّ مخلوقاته ما علِمنا منها وما لم نعلَم كلُّها مسخَّرة بأمره سبحانه، يمسك ما يشاء عمّن يشاء، ويرسِل ما يشاء إلى من يشاء، وكيف لا تُدرَك عظمةُ الجبار جلّ جلاله وضَعفُ جبابِرة الأرض مهما أوتوا من قوة؟! كيف لا تدلُّ على عظمةِ الجبّار ومنها ما يُهلك أمماً ويدمِّر دِياراً في ثوانٍ وأجزاءٍ من الثواني؟! ومنها ما ينتقل عبرَ الماء، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يُرى، ومنها ما لا يرى، نُذُر وآيات، وعقوبات وتحذيرات مخيفة، لا تَدفَعها القوى، ولا تطيقها الطاقات، ولا تقدِر عليها القدرات، ولا تتمكَّن منها الإمكانات ولا تفيد فيها الرّاصدات ولا التنبُّؤات لا تصِل إليها المضادَّات ولا المصدّات، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، وصدق الله العظيم: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ،  أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، (أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً)،(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ  أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ،  وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) هكذا نطقت آيات كتاب ربنا، فلنتفكر فيها ونتدبر، ولنأخذ منها الدروس والعبر في هذه الحياة الدنيا.

أيها الأخوة والأخوات في الله: إنها آياتُ الله وأيّامه ونذُره، تظهر فيها عظمةُ ذي الجلال وقدرتُه وقوّته وعظيمُ سلطانِه وعزَّته وتمامُ ملكه وأمره وتدبيره... إنَّ هذه الحوادث والقوارعَ توقِظ قلوباً غافِلَة؛ لتراجع توحيدَها وإخلاصها، فلا تشرِك معه في قوَّته وقدرتِه وسلطانه أحداً، ويفيقُ بعضُ من غرَّتهم قوّتُهم؛ فيتذكَّروا أنَّ الله الذي خلقَهم هو أشدّ منهم قوّة، وبخاصةٍ أولئك المستكبِرون ممّن غرَّتهم قوَّتهم وطال عليهم الأمد، فَرِحوا بما عندهم من العلم، ولقد قال الله في أقوامٍ سابقين: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) وقال في آخرين: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ  فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون،  فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ  فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) .أيّها الأخوة والأخوات: ومِن مواقف العِبَر والادِّكار في هذه الآيات والنّذُر ما يرسِل الله فيها من التخويفِ والتحذير، كما قال سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) وقوله صلى الله عليه وسلم  في كسوف الشمس وخسوف القمر: (إنهما آيتان من آيات الله؛ يخوَّف الله بهما عباده). فكم من إنسانٍ يرَى أفراداً من الناس مِن حوله يُتَخطَّفون ويُقتَلون، وهي من آيات الله لكنّه لا يعتبر، فإذا ما رأى من هذه الآيات الكبار المخوِّفات تذكَّر وادَّكر. فهي ذكرى لمن كان له قلب، يستوي في ذلك من حضَرها وشاهدها ومن وقع فيها ونجا منها ومن سمع بها. أعاصيرُ وزلازلُ وفيضانات وانهيارات وأوبِئَة وأمراضٌ من آيات الله وجنوده، تذكِّر الغافلين، وتنذِر الظالمين، وتوقظ المستكبرين، ويعتبر بها المؤمنون، ويرجع بها المذنبون.

انظروا رحمكم الله إلى هدي نبيِّكم محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وخوفِه من ربِّه مع أنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعَله أمنةً لأصحابه، (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) ومع هذا كان إذا هبَّت الريحُ الشديدةُ عُرفَ ذلك في وجهِه، وحين ينعقد الغمامُ في السماء ويكون السّحاب ركاماً يُرى عليه الصلاة والسلام يقبِل ويُدبر ويدخل البيتَ ويخرج، فتقولُ له أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: ما بك يا رسول الله؟! إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فيقول: يا عائشة (ما يؤمِّنني أن يكونَ عذاباً؟! إنَّ قوماً رأَوا ذلك فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا، فقال الله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) حتى إذا نزل المطرُ سُرِّي عنه، يعني كشف عنه ما بدا عليه من الخوف والوجل.

أيّها المسلمون والمسلمات: إنّ هذه الآيات والحوادثَ والكوارثَ ولو عُرفت أسبابها المادّية وتفسيراتها العلميّة فلا ينبغي أن يُظَنّ أنّ هذا صارِف عن كَونها آياتٍ للتخويف والتحذير، والنظر فيما وراءَ الأسباب والتعليلات من أقدارِ الله وحُكمِه وحِكمته؛ فهي آياتُ الله ومقاديرُه يقدِّرها متى شاء ويرسِلها كيف شاء ويمسِكها عمن يشاء، يعجز الخلق عن دفعِها ورفعِها مهما كانت علومُهم ومعارِفهم، وقُواهم، واحتياطاتهم، واستعداداتهم.

عبادَ الله: وإنّ مما يُخشى أن يكونَ الركونُ إلى التفسير المادّي والاستكانةُ إلى التحليل العلميّ والبعد عن العِظَة والذِّكرى من تزيينِ الشيطان، كما قال عز وجل: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ، وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) عياذاً بالله عباد الله؛

تتحرك الأرض وتتصدع الجبال وتسقط المباني وتهلك النفوس ولا تهتزّ القلوب! وترتجف الدّيار ولا ترتجف الأفئدة! وتعصف الرياح ولا تعصف النفوس! وتتزلزل الأرض وتتحرك ولا يتزلزل ابنُ آدم المخذول! وتنتشر الأوبئة والأمراض المستعصية ولا يتفكرون ولا يتدبرون، يُبتلون ويفتَنون في كلِّ عامٍ مرّةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يَذَّكَّرون!

كما قال عز وجل:(أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعْلِنوا بها، إلَّا فشا فيهم الطَّاعونُ والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضَتْ في أسلافِهم الَّذين مَضَوا قبلَهم)

أيها المؤمنون والمؤمنات: إنّ من تأمَّل أحوالَ بعضِ الناس ومواقفَهم ومسالكهم رأى أموراً مخيفة؛ فيهم جرأةٌ على حرمات الله شديدة، وانتهاكٌ للموبِقات والمحرمات عظيمة، وتضييعٌ لأوامر الله، وتجاوزٌ لحدودِه، وتفريطٌ في المسؤوليات في العبادات والمعاملات وإضاعة للحقوق، فالحذر الحذر رحمكم الله من مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القومُ الخاسرون… ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تكونوا كأصحابِ نفوسٍ قسَت قلوبها وغلُظت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حجابها، فلا تَعتبرُ ولا تتدبر، لا تكونوا من أقوامٍ جاءتهم آياتُ ربهم فكانوا منها يضحَكون! والآيات تأتيهم وهي أكبر من أختها فإذا هم عنها معرضون! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ)

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم ارحمنا برحمتك فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا بذنوبنا فإنك علينا قادر، برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله مولي النِّعَم وصارِف النِّقَم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد فيا أيها المسلمون: صح في الأحاديث والأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنَّ عظمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضِي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وإذا أراد الله بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرّ أمسَك عنه بذنبه حتى يُوافي به يوم القيامة. وأنه إذا كثر الخبث (أي الفساد) هلك المفسدون والصالحون الذين لا ينكرون. ويُخْسَفُ بأَوَّلِ (الناس) وآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ علَى نِيَّاتِهِمْ. (وصاحب الهدم شهيد) أي إذا كان مؤمناً صالحاً، وهو الذي سقط عليه سقف أو جدار أو حجارة ونحوه يعد شهيداً عند الله عز وجل. وقال صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمةٌ مرحومةٌ ليس عليْها عذابٌ في الآخرةِ عذابُها في الدُّنيا الفتنُ والزلازلُ والقتلُ عباد الله: وهذه الآيات والنذر والحوادث والنوازل والزلازل، التي تحدث في هذا الكون، يخوفنا الله تعالى بها وتحتاج منا إلى مراجعة جادة؛ لأنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، ونحن نرى واقعنا وما نحن فيه، ومن الغفلة أن نخدع أنفسنا بأننا على خير، ونُخَدِّر أنفسنا بأننا خير من غيرنا. فنكون جمعنا بين سوءتين عظيمتين: سوءة الإعراض عن مراجعة النفس والتوبة، وسوءة الاستهانة بآيات الله ونذره، بل الواجب أن نعترف أننا قد أسرفنا على أنفسنا بالذنوب والتقصير، وأن كثيراً منا مستحقون للعقوبة، والواجب  أن نلجأ إلى الله بصدق، ونجأر إليه بمسكنة وتذلّل، أن يرفع عنا ما أصابنا من محن ومصائب، وأن نعلم أن ذلك بما كسبت أيدينا؛ لأن الله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، ويقول جل وعلا: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بما ترون وتسمعون، وخُذوا حِذركم، واعتصِموا بالله، وتوكلوا عليه، وأكثِروا من الاستغفار، فقد تزلزلت الأرض بالمدينة المنورة على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخطب الناس وقال: (يا أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة لتحدث إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده إن عادت لا أُساكنُكم فيها أبداً) وفي رواية: والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم) فقد خشي رضي الله عنه أن تصيبه العقوبة معهم..

 ولما رجفت الأرض في الكوفة على عهد الصحابي الجليل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال (أيها الناس إنَ ربَكم يستَعِتبُكُم فاعتِبوه)

أي يطلبكم الرجوع عن الإساءة واسترضاءه فافعلوا… فهو سبحانه يَبعَث النّذرَ والآيات ليرجع العبادُ إلى ربهم، وحتى لا يُؤخَذوا على غِرة… فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، وارجعوا إلى ربكم، واحذروا الذنوب والمعاصي، وأكثروا من الاستغفار  وتضرَّعوا إليه وادعُوه وأحسِنوا وتصدَّقوا، لرفع البأس والضر والبلاء، ولقد قال الله في أقوام: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ، وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) 

وأخيراً عباد الله في مثلِ هذِهِ المصائبِ والكوارثِ والزلازل التي تنزِلُ بإخوانِنا المسلمينَ، عليْنا أنْ نتذكَّرَ واجبَ الأخوةِ لهُم، وحقَّ الإحسانِ عليهِم، فمعَ هذِهِ المشاهدِ المحزِنَةِ وهذِهِ النِّداءاتِ التي تُقَطِّعُ القلبَ، على كلِّ مَن وسَّع اللهُ عليهِ أن يجودَ على إخوانِه بما يستطِيعُ مِن خلالِ المؤسَّساتِ والجمعيات الرّسميّةِ والأهليَّةِ، ومَن عجِز فلْيكُن دالاً على الخير، معَ التذكيرِ بالدعاءِ لهُم أن يرْفعَ اللهُ عنهُم الكربَ وأن يلْطفَ بهِم إنَّهُ رحيمٌ كريمٌ

اللهم إنك أنت الله لا إله إلآ أنت الغني، ونحن الفقراء، نحن عبيدك بنو عبيدك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم ارفع وادفع عنا وعن المسلمين الغلاء والوباء والرِّبا والفواحش والزلازلَ والمحن وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدِنا هذا خاصة وعن سائِر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. لا إله إلا أنت سبحانَك إنّا كنّا من الظالمين، ربَّنا ظلمنا أنفسَنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين (نسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ، وَنتُوبُ إلَيهِ) اللهم ارحم والطف بإخواننا المنكوبين في سوريا وتركيا، اللهم أغفر لموتاهم، واشف مصابهم، وألهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان وأدخلهم الجنة مع الشهداء الأبرار. اللهم احفظهم وادفع عنهم البلاء والبراكين والزلازل والفيضانات وجميع الفتن، والمحن. وأجعل لهم من كل هم فرجاً،

ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية يا رب العالمين. اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

 اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين..

اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين..  اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ. الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

      خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين